مما لا شك فيه ، أن فكرة العلاقة بين الفنون ، أو تداخل الأنواع الأدبية ، ليس وليد عصرنا الراهن ، فمنذ أن وجدت الفنون قامت هذه العلاقة ، وأن هناك صلة ما بين الفنون المختلفة . وقد أشار أرسطو ـ قديما ـ إلى وجود علاقة بين الشعر والتصوير ، واصفا الشاعر بأنه محاك للمصور .
وهنا سأتناول العلاقة بين القصة القصيرة وبقية الفنون ، مركزا على علاقتها ، بفني الشعر والسينما .
على مر تاريخها ، تجاوزت القصة الملامح ، التي حاول النقاد أن يضعوها لها ، وتعددت أنواعها ، وظهرت عشرات المصطلحات التي تصفها ، مثل القصة الرمزية ، قصة الاسكتش ، قصة الشخصية ، أقصوصة ، قصة قصيرة جدا ... إلخ .
وكل تلك المحاولات لوضع مفاهيم ، أو مواصفات معينة للقصة القصيرة ، قامت هي بتحطيمها وتجاوزها ، وبالتالي يمكن القول ، إن أي محاولة لوضع تعريف ، أو مواصفات لها ، سيكون قاصرا ومحدودا وبلا جدوى ، فالقصة القصيرة هي التي لا تعريف لها ، أو هي الشكل الهلامي الذي يصعب صبه في قالب ، أو شكل محدد . هي فن غير معين بمفاهيم أو أشكال ، وهذا لا يعني تحررها التام ، وعدم خضوعها لأي قواعد ، وإنما هناك ملامح معينة ، متفق عليها للقصة القصيرة .
علاقة القصة القصيرة بالفنون الأخرى :
هناك علاقة تربط بين مختلف أنواع الفنون ، بعضها ببعض ، فلا توجد حدود مرئية تفصل بينها ، ولأن القصة القصيرة حديثة الظهور ، مقارنة بالفنون الأخرى ، فهي قد استفادت من أساليبها وتكنيكها وبنائها الفني ، فالفن القصصي أبسط أنواع الفنون ، وأكثرها صعوبة في نفس الوقت ، إذ هو " أبسطها من حيث استيعابه المتسامح ، لعناصر وسمات وخصائص جديدة باستمرار ، ومع ذلك فهو أكثر الفنون صعوبة ، لحاجته إلى دهاء خاص ، في استعمال هذه العناصر ، وإخضاعها لتقنياته الشكلية " (1) .
ويتجلى ذلك واضحا ، في ملمح التكثيف ، الذي استعارته القصة من الشعر ، والحوار المأخوذ من المسرح ، وإن كان يوسف إدريس يرى ، أن العلاقة بين القصة القصيرة والمسرح ، تتمثل في الشعر ، فالقصة تحتاج إلى عقلانية أكثر من المسرح ، لذلك يمكن أن ترى كاتب قصة قصيرة ، ولكنه دون التأليف المسرحي ، ولكن من المؤكد أن ترى كاتبا مسرحيا يكتب قصة قصيرة ، وهذا يرجع إلى لغة الشعر ، التي تتجلى في المسرح ، ومن هنا فالمسرح يؤثر في القصة ، لأنه ينمي الحاسة الدرامية " (2) .
القصة والشعر :
يبدو التقارب الوثيق بين فني القصة والشعر جليا واضحا ، وبما أن اللغة وعاء الفكر ، وأن الكتابة هي وسيلة نقل الأفكار ، بكل ما تحمله من إمكانيات بلاغية وصوتية وموسيقية ، استخدمها الشعر وبرع فيها وامتاز بها (ولا يعني هذا أن الشعر مجرد لغة فقط) فنجد هذا واضحا في التكثيف والاختزال ، والاختيار الدقيق للكلمات والمعاني ، وهو أحد ملامح القصة القصيرة .
وقد ظهر مصطلح القصة / القصيدة للدلالة على نوع من القصص ، التي تقترب اقترابا شديدا من الشعر ، وتتماس معه أو تمتزج به ، بحيث تأخذ الكثير من عناصره ، دون أن تفقد روحها وخصوصيتها كقصة . وللتفرقة بين مصطلحي القصة / القصيدة والقصيدة الخالصة ، يقترح إدوار الخراط عنصرين (3) :
الأول : أن تكون للسرد أولوية في القصة / القصيدة ، ومكانة رئيسية ، لا بمجرد وجود السرد فقط ، وإنما بالقصد إليه ، واتخاذ تقنياته الخاصة ، بحيث تظل هناك حكاية ، ولا يشترط فيها أن تكون بشكل رئيسي ، وذلك على عكس القصيدة الخالصة ، والتي مهما ساد فيها نوع من السرد الحكائي ، لكنه لا يسودها ولا يحكمها .
أما العنصر الثاني : فيتعلق بموسيقية العمل الفني ، فإذا كان الإيقاع والبنية الموسيقية ، تحتل المرتبة الأولى في العمل ، فإنها تميل به إلى جانب القصيدة الخالصة ، وبالتالي فإن بنية القصيدة الخالصة ، تكون في موسيقيتها ، لا في سرديتها .
إذن فإدوار الخراط ، يرى أن غلبة السرد على النص ، تميل به إلى القصة . وأن غلبة البنية الموسيقية تميل به إلى الشعر . ومع ذلك فهو يرى أيضا ، أن (4) هذا الفارق بين المصطلحين غير محسوس ، وأنه فارق دقيق وحرج ، ويقول في موضع آخر " أسلم تماما أن مسألة الفصل الحاد الكامل القاطع المعملي قد انتفت ، ذلك أن الاختلاط بين الأنواع ، ليس موجودا في القصة القصيرة ، بل في المسرح وفى الرواية وغيرها ، بحيث يمكن أن نتكلم عن الرواية السيمفونية ، أو القصة التشكيلية " (5) .
عموما ما يتبقى في النهاية ، هو الكتابة . كتابة العمل الفني ، بما يحمل من جماليات خاصة به ، بغض النظر عن تصنيف هذه الكتابة ، تحت اسم معين أو وضع مفهوم لها ، أو قبول البعض لهذا الاسم ودفاعهم عنه ، أو رفض آخرين له ونفيه ، وبالتالي نفي النص نفسه ، خارج منظومة الكتابة .
القصة والسينما :
منذ ظهور السينما قبل نحو مائة عام ، وتطورها من خلال أفلام صامتة ، ثم ناطقة ، وأبيض وأسود ، ثم ملونة ، واستخدامها لتكنولوجيا العصر ، اعتمدت في معظم إنتاجها السينمائي ، على أعمال قصصية ومسرحية ، والمتتبع للنصوص القصصية ، خلال فترة ما بعد ظهور وانتشار السينما ، على نطاق جماهيري واسع ، سيلاحظ أن القصة على مستوى الشكل ، بدأت تتأثر وتستخدم تقنيات السينما ، خصوصا على مستوى بنية الزمان والمكان ، والفلاش باك ، والنهايات المفتوحة ، وعدم الالتزام بحل الحبكة القصصية ، ويبرز هذا التأثر أكثر في فنية المونتاج ، أو القطع والوصل ، فاعتمدت القصة في تكوين الصورة الكلية ، من خلال جمع الصور الصغيرة .
إن تداخل الأنواع الأدبية ، بعضها ببعض ، لا يعنى نفي فن لصالح فن آخر ، فالفن يتطور ويجدد نفسه وإبداعاته ، وقد تبرز أنواع جديدة تخلق مبدعيها ومتذوقيها ، فالفن ككائن وحيد الخلية ، يتكاثر وينقسم ويتكيف ، وينتج أنواعا جديدة تلائم الظروف الجديدة ، وما يبدو واضحا اليوم ، إن التمييز أو وضع فروق بين الأنواع الأدبية ، لم يعد ذا أهمية ، فالحدود الموضوعة تهاوت ، ويتم عبورها وتجاوزها